دستور اقتصاد الأسرة المسلمة ..

دستور اقتصاد الأسرة المسلمة ..
أرسى الإسلام منظومة متكاملة من القواعد الاقتصادية والمبادئ التي تنظم وتضبط عملية الإنفاق والاستهلاك، على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع. وعلى الرغم من ذلك تعاني أسَر كثيرة أزمات اقتصادية، بسبب شيوع أنماط الاستهلاك الترفي والإنفاق غير الواعي. فهل من مُتَّعِظ؟
جاء الإسلام بمجموعة من القواعد الاقتصادية، التي تُنظِّم الأداء المالي للأُسرة المسلمة. وفي بيان ذلك تتحدَّث إيمان إسماعيل عبدالله، مديرة حملة أهل القرآن العالمية، دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري في دبي. وتستهلُّ حديثها مُوضِّحة أن تراجُع الوعي الاستهلاكي لدى الأُسرة المسلمة أصبح ظاهرة تُهدِّد استقرار الأسر والمجتمع، وذلك على الرغم من وجود أُسس وقوانين وأنظمة وضعها الإسلام، بحيث تُمثِّل دستوراً اقتصادياً للأسرة المسلمة، يبين السلوكيات الاقتصادية السليمة، الكفيلة بإشباع احتياجات الأسرة بشكل متوازن وسليم. ولهذا يلزم توضيح تلك القواعد وإعادة التذكير بها.
- الكسب الحلال:
قال تعالى: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) (الأعراف/ 175). وقال رسول الله (ص): "إنّ الله تعالى طيِّبٌ لا يَقبَل إلا طيِّباً". فيجب على الأسرة المسلمة أن تتحرّى الحلال الطيِّب في كسبها وإنفاقها واستثمارها ومعاملاتها كافة، وأن تمتنع عن الحرام، وأن تتقي الشبهات حتى يُبارك الله تعالى لها في رزقها.
- أداء الحقوق:
المال الذي يرزقه الله تعالى للإنسان، تترتب عليه حقوق لابدّ من أدائها والوفاء بها، ومنها حق الله تعالى، الذي أوجَبَه في المال من الصدقات والزكاة وغيرهما، وكذلك حقوق الأهل والأولاد وتشمل النفقة، فضلاً عن سائر الحقوق الواجبة تجاه الأرحام والجيران والفقراء والمستضعَفين، وغيرها من ألوان البِرّ ووجوه الخير.
- الالتزام بالأولويات:
يُراعي اقتصاد الأسرة المسلمة مبدأ الأوليات. والمقصود بذلك تصنيف مطالب الأسرة وأوجُه إنفاقها إلى ثلاث مراتب أساسية، تأتي في مقدِّمتها الضروريات التي يَهلَك الإنسان من دونها، تَلِيها الاحتياجات التي من دونها تصبح الحياة شاقة، ثمّ الكماليات التي يمكن للأسرة أن تستغني عنها بسهولة ويُسر. وفي ضوء هذا التصنيف لا يجوز تقديم الاحتياجات على الضروريات، ولا أن تستنفد الكماليات ميزانية الأسرة، مع وجود عجز في الضروريات أو الاحتياجات.
- توازن واعتدال واقتصاد:
المقصود بالتوازُن، هو ذلك السلوك الاقتصادي القائم على الموازَنة بين الكسب والإنفاق، والحاضر والمستقبل وبين الضروريات والاحتياجات والكماليات. وقد نبّه الإسلام إلى ضرورة التوازن في قوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء/ 28). والقوام هو الوسط، فلا إسراف ولا تقتير، أي ليسوا مُبذِّرين في إنفاقهم ولا بُخلاء على أهليهم، بل معتدلون في الإنفاق، وخير الأمور أوسطها.
على الأسرة المسلمة أن تكون مُقتَصدة في مَطعمها ومَشربها ومَسكنِها وملبسها وسائر شؤونها، فإنّ الترف من أسباب الفساد والفاقة. يقول رسول الله (ص): "ما عال مَن اقتَصَد". يقول أبو بكر (رض): "الاقتصاد نصف المعيشة". حيث يتحقق الاستقرار والخير، بالاقتصاد في المعيشة.
- الإدِّخار:
الادخار أحد المبادئ الاقتصادية المهمّة، التي نبّه إليها ديننا الحنيف. ويُقصد بالادخار، الأخذ من وقت الرخاء لوقت الشدّة. وقد ضرب الله تعالى مثلاً لذلك على لسان نبيه يوسف (ع). قال تعالى: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ) (يوسف/ 47).
وقد حث رسول الله (ص)، على الادخار في قوله: "رَحم الله امرأ اكتسب طيِّباً، وأنفق قصدا، وقدَّم فضلاً ليوم فقره وحاجته".
وإذا كان الإسلام قد شجع على الادِّخار، فإنّه قد حذّر من البخل والشُّح ومن الاكتناز، لِمَا فيه من تعطيل للمال وحبس له، وعدم أداء حقوق الله فيه، ومَن يفعل ذلك توعَّده الله سبحانه وتعالى بعذاب أليم. قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة/ 34-35).
- التربية الاقتصادية:
تهتم الأسرة المسلمة بإرساء الجوانب التربوية والأخلاقية والإيمانية والسلوكية، وغيرها في نفوس أبنائها، إلا أنّ كثيراً من الأسر تغفل عن تربية أبنائها تربية اقتصادية سليمة، على الرغم من أهمية التربية الاقتصادية في تزويد النشىء بالمفاهيم الاقتصادية الإسلامية، ومساعدتهم على ترجمة تلك المفاهيم إلى سلوك اقتصادي سَوي على جميع مستويات التعامل الفردي والأسري والمجتمعي.
وتكتسب التربية الاقتصادية أهمية متزايدة يوماً بعد يوم، حتى أصبحت ضرورة عصرية للنهوض بالمجتمع المسلم ككل، من خلال إعداد أفراده ليكونوا عناصر نافعين في المجتمع. فتربية الأطفال منذ الصِّغر على معرفة أن هذا حلال فيتَّبعونه، وأن هذا حرام فيجتنبونه، وأنّ هذا طيِّب نشتريه، وهذا خبيث لا نشتريه، مثل هذه التربية الإيمانية تضمن للأبناء في كبرهم اتخاذ قرارات اقتصادية سليمة وواعية.
يبقى أنّ الأسرة لن تتمكن من أداء دورها التربوي على الوجه الأمثل، إلا إذا التزمت بالمبادئ والآداب الإسلامية في جميع شؤونها، في طعامها وشرابها، في أفراحها وأتراحها. وفي هذا الجو الإيماني ينشأ الجيل المسلم الواعي.
- سلوكيات مَنهيٌّ عنها:
الإسراف والتبذير، ويُقصد بهما الإنفاق فوق حد الاعتدال، وإنفاق المال في ما يضر أو لا ينفع، وهذا الإسراف ممقوت في الإسلام، وقد نهَى الله تعالى عنه في أكثر من آية، ومن ذلك قوله عزّ وجلّ: (... وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء/ 26-27). وقوله عزّ وجلّ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31). وهذا تحذير للمجتمع الإسلامي من التبذير والإسراف. كما نهَى الرسول (ص) عن إضاعة المال، في الحديث الشريف: "أنهاكم عن ثلاث: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال". ويقول (ص): "كلوا واشربوا والبسوا وتصدَّقوا في غير إسراف ولا مَخيلّة".
اتِّباع هوى النفس، فكل إنسان له رغبات وشهوات. وإطلاق العنان للنفس في إشباع رغباتها في التملُّك والاقتناء والشراء، لابدّ أن يجرّ ويلات ونَدَماً، فكبح النفس مطلوب، وتعويدها على الاقتصاد والانضباط أمر لازم.
التقليد الأعمَى، وهو سبب مشكلات اقتصادية، وغير اقتصادية كثيرة، تحدُث في البيت المسلم. فالاندفاع وراء التقليد الأعمَى يُورث الإسراف والإنفاق في غير حاجة ولا مَنفعَة.
- توصيات للمرأة المسلمة:
الزوجة والأُم، هي مديرة شؤون الأسرة ومدبّرة أمورها، وهي الراعية الأمينة على مَواردها. ومن هنا وجب أن تكون بعيدة كل البعد عن التبذير والإسراف، وأن تتفادى الإنفاق في غير أوجه الحاجة ودواعي المصلحة. ولأنّها صاحبة القرار في ما يَخصُّ أمور بيتها، فهي تتخذ القرارات الاقتصادية السليمة، التي من شأنها مراعاة ظروف زوجها المادية وتلبية احتياجات أسرتها، والحفاظ عليها من الأزمات. وفي ما يلي مجموعة من النصائح والتوصيات، التي تُعين على أداء هذه المهمات على أكمل وجه.
- اجتهدي في تثقيف نفسك اقتصادياً واستهلاكياً حتى تتخذي قرارات سليمة، ولتصبحي نموذجاً لأبنائك، وتساعدي زوجك على مواجهة أي صعوبات قد تحصل نتيجة متغيّرات الزمن.
- اتّقي الله سبحانه وتعالى، وأحسني التصرُّف في مال زوجك، فأنتِ راعية فيه ومسؤولة عنه يوم القيامة.
- الاعتدال في الاستهلاك يتحقق بوضع حدود وضوابط، تتماشى مع إمكانات الأسرة والالتزام بها، عملاً بقوله تعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (الطلاق/ 7).
- يجب أن يعلم أفراد الأسرة أن دخلها هو المحدِّد الرئيسي لأوليات الإنفاق، والضروريات التي يجب استهلاكها وشراؤها، مع الاهتمام بوجود توعية مستمرة، حتى تتصدّى الأسرة لكل المغريات التي تقف وراء تورُّطها في شراء كماليات على حساب الضروريات.
- تعليم الأبناء أهمية الترشيد والاستهلاك الواعي وتحذيرهم من الإسراف والتبذير.
- زرع ثقافة الإدِّخار لدى الأبناء، عبر تعريفه لهم وتوضيح أهميته وتعويدهم عليه.





Share

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites